استقلال الاغتراب بين التحرّر والاقتراع

انضم إلى مجموعاتنا الإخبارية عبر واتساب

كنت قد خطّيت نصّاً العام الفائت عن الاستقلال، محاوِلة وضع مقاربة بينه وبين الحبّ القديم، إذ في الاثنين تحرّر، كما في الاثنين تواطؤٌ مع الذات على واقع الحال؛ وخلصت حينها إلى أن التحرّر يسبق الاستقلال بمرحلة، ولا استقلال من دون تحرّر، وأن الاستقلال تسبقه مرحلة إعادة تكوين الذات، تمهيداً لإعادة تكوين الوطن.

فالذات مسألة أساسية لأن المواطنة تبدأ وتنتهي مع ذات كلّ فرد منّا، وكلما كانت الذات متماهية مع مفهوم المواطنة لدى كلّ مواطن، كان الوطن موطناً للجميع من دون أيّ تفرقة، أي أنه كلما اتفق المختلفون على حق الاختلاف، انصهرت الذات في المواطنة.

وأنا أطالع نصّي لأقارن بين ما فكّرت فيه العام الفائت وبين ما أفكر فيه اليوم، استذكرت منير .

لم ألتقِ منيراً أبداً، ولكنّني كنت قد التقيت زميلاً ناشطاً يعمل دون مللٍ على إدارة الانتخابات النقابية والبلدية والطلابية، وأخبرني بانكسار قصّة أخيه المهاجر، منير، الذي يعمل دون كللٍ على التخلّي عن جوازه اللبناني، وهو يرفض إصدار هويّته المدنيّة. فجوازه ورقة دخوله إلى أرض وطنه الأم، ولكنّه لا يخدمه في ظرف آخر. والهوية لا قيمة لها بالنسبة له. منير هاجر من موطنه وجفاه، كما ملايين غيره من الجيل القديم والجيل الجديد؛ والجيل القادم يبدو سيحذو خطاه.

مسألة الاغتراب ترتبط بعدّة عوامل معلومة كالاقتصاد والأمن والأمان والنمو التي كثرت الخطابات الإعلامية والأكاديميّة والسياسية عنها. ولكن الهجرة نحو الاغتراب مسألة تمتدّ إلى أعمق من الأمان والاقتصاد، لتلمس الذات في باطنها، ولو أن ذلك لدى كثيرين مجهول.

فالهجرة لم تعد أمراً مفروضاً حصراً، بل باتت خياراً، ولكن محصورة بمن استطاع إليها سبيلاً، وذلك ليس بحثاً عن عيشة كريمة، بل بحثاً عن وطن من أجل الانتماء إليه؛ وذلك لدى من لم يرهن ذاته لرمز أو حزب أو زعيم. فالهجرة باتت بحثاً عن علاقة سليمة مع المواطنة، وبينها وبين ثنائية الحقوق والواجبات.

المفارقة أن من يهاجر يعي أنه سيكون ضيفاً ثقيلاً في البلاد الأخرى، وأنه نصف مواطن بدرجة متدنّية، وأنّه يدفع أثماناً باهظة من ضرائب وقيود وخوف من تزعزع العلاقات السياسيّة بين وطنه الأم ووطنه المرتجى، كما خاف مئات الآلاف من تصريح قديم لإعلاميّ سابق، لحم كتفه من دولة شقيقة اختارها خصماً بعدما بات وزيراً للإعلام. السياسة سوريالية في هذا الوطن!

المغترب يعيد تكوين مفهوم جديد للحقوق والواجبات، وبالتالي يعيد تكوين المواطنة في ذاته ليخلص إلى البحث عن مصلحته الشخصية مقابل انعدام الثقة بوطنه الأم.

أنا أدري بأن منيراً كان يتابع انتخابات نقابة المحامين من خلف شاشته الصغيرة، ولم يكلّف نفسه بمتابعتها على الشاشة الكبيرة، مع أنّه ينكر أنه يتابعها، وهو يردّد: “أنا فلّيت كلّني من البلد، قلباً وعقلاً، وما بقى بهمنّي لأنو مش بس الحكّام هيك بدن، الشعب هيك بدو كمان، والديمقراطية غبيّة لأنّها بتعطي الحكم للأكثرية، والأكثرية دايماً هنّي الأغبياء”. فنتائج الانتخابات كانت خيبةً، ليس في قالب خسارة المجتمع المدنيّ مقابل الأحزاب – هم على الأقلّ حاولوا بكلّ ما بحيلتهم – بل الخيبة في عدم قدرة كوادر المجتمع القانونية على أن تحكم على المشهديّة السياسيّة، التي أودت بنا إلى قعرٍ تاريخيٍّ ومستقبليّ. التحالفات السياسيّة اليوم في نقابة المحامين، ترسم ملامح الفترة المقبلة لمهمّة إحقاق العدل والمدافعة بالقانون، في وقتٍ، جهاز القضاء الذي يحكم مهمة إحقاق العدل والمدافعة بالقانون، متزعزع تحت التجاذبات السياسيّة وتحالفاتها، إلى حدّ الاستخفاف بسلطة القضاء، كما سلطة القضاء تستخفّ بالدستور.

التاريخ سيذكر هذا القعر الذي سنغوص فيه نحو مستقبل سوداويّ.

لقد رفض منير أن يكون من الأكثريّة الغبيّة في البلد، وغادر نحو وطن بديل، ولم يعد لا ضمن الأغلبية ولا الأكثرية. بات منير منفرداً وبعيداً عن كثر منفردين في الوطن والمهجر، اضمحلّت وطنيتهم وراء جوازات سفر جديدة.

ولا ألومهم، بل ألوم وطنهم الذي يطاردهم في أوطانهم البديلة ويزعزع وطنيتهم، ويحدّهم بانتخاب ستة نواب فقط على اتساع القارات كلّها.

في عيد الاستقلال هذا العام، بعد عامين تقريباً من #ثورة_١٧تشرين، والذي يُصادف إغلاق أبواب التسجيل للمغتربين في الانتخابات النيابية المقبلة 244422 ناخباً وناخبةً. رقم قد يكون غير مبشّر، ولكنّه حتماً فأل خير!

تذكّرت منير الذي لا أعرفه، والذي أعلم أن قصّته مع جوازه شبيهة بقصص مليون مغترب أعاد تكوين ذاته بعيداً عن وطنه، ففقد معنى المواطنة.

أيها الـ244422 مغترباً، شكراً لكم على إعادة تفعيل مواطنتكم، ومنحنا أملاً أكبر بكم، ولو كنتم بعيدين! نحن نحبّكم، والوطن لا يزال يحبّكم، ولو صار البعد جفاء.

علّموا أولادكم، وأولاد أولادكم حبّ الوطن، ولو كان قاسياً عليكم. فالوطن يحبكم.

وشكراً لك يا منير على هذه القصة، شكرا لك على غضبك وحزنك. وآمل أنّي نجحت في ضمّ صوتك المكتوم إلى أصوات كثيرين مكتومين مثلك، وأن تعي أننا نريد أصواتكم هنا بيننا.

نريدكم أن تستفيقوا من غيبوبتكم السياسية الطوعية، وأن تركبوا طائرة من بين عشرات الطائرات التي تركبونها كلّ عام، لتوصلكم مباشرة إلى صناديق الاقتراع يوم الانتخابات. وتأكّدوا أنّه كلّما كثرتم، باتت أصواتكم مسموعة في وجه الأكثرية الغبيّة؛ وكلّما تحالفتم، كان التغيير ممكناً.

إلى منير، وإلى كلّ مغترب لم يتسجّل في صناديق الاقتراع، كونوا هنا يوم الانتخابات لو مهما تأجّلت أو تعثرت. فالوطن لكم، وأنتم حتماً أبناء وطنٍ لا موطنَ لكم سوى هو.

شو رأيك؟ بدك ويب سايت بس بـ5$ بالشهر

قناتنا على واتساب

انضم إلى قناتنا الإخبارية عبر واتساب للحصول على آخر الأخبار

تابعنا

على وسائل التواصل الاجتماعي

تابعنا على تلغرام

انضم إلى مجموعاتنا الإخبارية عبر تلغرام للحصول على آخر الأخبار