مقابلة مع د. سالي حمود في مجلة الأمن العام اللبناني، ومقاربة مختصرة لأداء الإعلام اللبناني خلال تغطية الحرب على لبنان
يضع التاريخ الحديث الاعلام في قفص الاتهام على خلفية مفعول التأجيج والتحريض الذي اضطلع به فاعلون في هذا القطاع الحيوي ابان العديد من النزاعات المسلحة. لقد كان الخبر المضلل والتحريض الخطابي دائما وقودا لحروب دامية، خصوصا في حقبة ما بعد الحرب الباردة. يقول الباحث الفرنسي المتخصص في اجتماعيات الاعلام ريمي ريفيل “ان الحرب حدث اعلامي من الدرجة الاولى، فصور وسرديات النزاعات الدولية تغير طبيعة المعلومة، وتقود السلطات السياسية والعسكرية الى محاولة التحكم منهجيا في مضمون الصحافة والاذاعة والتلفزيون”. في مقابل الاعلام اللبناني في زمن الحرب حيث لا ضوابط في عمل الوسائل الإعلامية، يتقيد الاعلام الاسرائيلي والاجنبي بمجموعة ضوابط تحددها له الرقابة العسكرية كشرط من شروط الاذن بممارسة المهنة. من ضمن هذه الشروط عدم التطرق الى الهجمات الصاروخية التي تستهدف مواقع حساسة في اسرائيل، وعدم ذكر اماكن وجود كبار القادة والضباط في ساحة المعركة او نوع الاسلحة التي يستخدمها جيش الاحتلال، وعدم نشر المداولات الامنية لمجلس الوزراء، وعدم تناول موضوع المحتجزين والاسرى في غزة وغيرها. في هذا السياق، اجرت “الامن العام” حوارا مع رئيسة قسم فنون التواصل في الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا الدكتورة سالي حمود عن الاعلام في زمن الحروب، والعدوان على لبنان نموذجا.
- كيف تطور دور الاعلام عبر التاريخ في زمن الحروب؟
لقد مهدت الحروب لنشأة الاعلام بسبب الحاجة الى ابواق تتحدث باسم الدول او الحكومات او الحركات، فنشأت عنها البروباغندا التي هي اساس الاعلام الا انها تختلف عنه في ارتباطها بالدعاية السياسية. وقد تطور الاعلام مع تطور مجتمعاتنا ليكون في مكان ما هادفا اي الاعلام الاجتماعي، الثقافي وغيره. ومع تطور التكنولوجيّا بدأنا نتحدث عن الاعلام الرقمي الذي غير المشهد برمته. من ابرز الامثلة عبر التاريخ عن البروباغندا هو ما قدمه هتلر، حين وضع مستشاروه الدعامة الاساسية للدعاية السياسية او الاعلام الحربي، فتحكم بالصحف والراديو وتدخل بمحتوى الكتب. لقد انشأ وزارة خاصة تهتم بهذا الموضوع، وزرع عنصر الخوف لدى الناس مما ادى الى تزايد اعداد المناصرين بسبب هذا الخوف. واخيرا، استطاع ان يقلب الرأي العام مثلا على الشعب اليهودي.
- الى اي حد يؤثر الاعلام في ربح ايحرب او خسارتها؟
الاعلام ليس ذراعا فقط في الحرب بل هو معركة حقيقية واساسية، فاذا استطاع اي فريق ان يربح الحرب الاعلامية يمكنه عندها ان يفرض سرديته. هناك مقولة شائعة: “الرابح يكتب التاريخ”، ولا يتم ذلك الا من خلال الاعلام حيث يتم توصيف المشهد كما يريده الفريق الرابح في حين لم يكن المتلقي قد عاش هذه الاحداث. كل ما نحصل عليه اليوم هو مثابة النتيجة المبنية على اساس استراتيجيات اعلامية تم وضعها. وهنا نلاحظ انه بعد الحرب العالمية الثانية كيف تم العمل على المصالحات بين الدول، مثلا بين دولتين كانتا تتقاتلان كالمانيا وفرنسا وكان الارتكاز على حل النزاعات، فتغيرت السردية ما بين الدولتين. لقد فشلنا في لبنان في حل النزاعات، اذ كان علينا العمل على ما يسمى التحول في النزاعات، والعمل على الخطاب الداخلي والخارجي، اي نتحدث هنا عن الاعلام. في لبنان قمنا بحل نزاع في اتفاق الطائف، الا ان الخطاب الاعلامي الداخلي بقي متناقضا في وقت ان لبنان في امس الحاجة الى تماسك في الخطاب الاعلامي في زمن الحرب. صحيح ان هناك انقساما قبل الحرب، لكن حين تهتك ارضي واجوائي وشعبي من قبل عدو شاهدناه على الشاشات يقتل الاطفال والنساء ويمحو عائلات من السجلات، كما يقصف المستشفيات، عندها وجب علينا تأجيل الانقسامات وتناسي الاختلافات وتفادي الاستفزازات، لأننا شعب مجروح متروك لينازع وحيدا. نحن لا نملك الا هذه الارض، وهي معرضة للاجتياح، ولا نملك الا بعضنا بعضا وقد تعرضنا اصلا للاختراق.
- كيف تعامل الاعلام العربي مع القضية الفلسطينية والصراع العربي – الاسرائيلي منذ نشأته؟
لاعلام هو جزء من تكوين المجتمع خصوصا في العالم العربي الذي يتميز بأنه مجتمع عاطفي ويعيش الحالات الجماعية ويرى في الحالات الفردية تنصلا من قيم المجتمع. كان هناك اختلاف في الخطاب بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، اذ انه كان موحدا اكثر في زمن الملك فيصل والرئيس عبد الناصر. كان هناك نوع من الانسجام بالخطاب الاعلامي في الحرب العربية – الإسرائيلية، حتى وصول الرئيس انور السادات الذي اتى بمشروع سياسي جديد للمنطقة، وحمل معه فكرا اعلاميا جديدا لأنه كان يتحدث عن السلام في حين ان عبد الناصر كان يتحدث عن المواجهة مع اسرائيل. بعد مرحلة السادات، بدأت التنوعات في الخطابات الاعلامية تجاه القضية الفلسطينية. في لبنان مثلا، واكبت جريدة السفير القضية الفلسطينية حيث كانت قضية منطقة، اما اليوم فقد اصبحت قضية بلد. تبدلت اليوم الخطابات الاعلامية والسياسات والعلاقات الديبلوماسية بين الدول، واثرت بشكل كبير الجغرافيا السياسية عليها. اختلفت طبيعة الحروب، ولم يعد ينظر الخطاب العربي الى القضية الفلسطينية وكأنها قضية عربية. ينظر اليها وكأنها قضية شخصية، بمعنى ايمان شخص بهذه العقيدة التي هي جزء اساسي من الاسلام السياسي. لا شك اننا نرى اليوم قطبية واضحة وصارخة في الاسلام السياسي في العالم، لأن القضية الفلسطينية تحمل في جانب معين جانبا دينيا عند الكثير من المسلمين. هذا لا يعني ان المسيحي لا يعنيه الامر، لكن هناك تفاوت في الاولويات وفي العقيدة نفسها. ان عقيدة الجهاد موجودة اليوم عند الاسلام السني والشيعي، لكنها غير موجودة عند الاديان الاخرى المسيحية، على سبيل المثال.
- كيف خدم الاعلام الاسرائيلي السياسة الاسرائيلية وحروبها في المنطقة؟
يعتمد الاسرائيلي في هذه الحرب بشكل صريح وواضح على التكتم الإعلامي، والاعلام الموجه واضح جدا. ما يخدم الاسرائيلي اليوم هو التكنولوجيا وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ان كان بالاسلحة او الحصول على بيانات او التعقب لتحديد الاهداف. كما انهم يعرفون تفاصيل تامة عن ثقافتنا حتى عن “النكت” اللبنانية. لا يمكن التحدث عن الاعلام الاسرائيلي من دون الاضاءة على دور المتحدث باسم جيش العدو افيخاي ادرعي الذي يشكل حالة قائمة في ذاتها. ما يزعج ان اللبنانيين ينتظرون هذا الشخص للتزود معلومات للمحافظة على سلامتهم، في حين لا متحدث رسميا واضحا في لبنان باسم الحكومة اللبنانية. حتى ان المحتوى الذي يرسله ادرعي لا يقتصر على الإنذارات، بل يخاطب مثلا صحافيا في تلفزيون الميادين يتحدث اليه بالشخصي، ويرد على امرأة موجودة فقط على tik tok ، مما يعني ان اعلامهم نشيط ويفتش على المعلومات ولا يرسل رسائل لمجرد ارسالها بل لتحقيق اهداف معينة واهمها الحرب النفسية. المشهد المتغير في هذه الحرب هو ان ادرعي اصبح يخاطبنا بالمباشر، ويتحدث عن القضايا الداخلية في لبنان. مثلا، عندما تحدث عن ضرب القرض الحسن قال: ان الدولة نهبت اموالكم. وبسبب عدم وجود متحدث باسمنا، استطاعوا فرض هذا الخطاب علينا والاستماع اليه للتعرف الى تفكيرهم والخطوة المقبلة. استطاع المتحدث باسم العدو باللغة العربية، ان يستوعب خلافاتنا السياسية والطائفية والعقائدية، ويستخدمها في رسائل قصيرة نقلب بها الطاولة على بعضنا البعض. استفاد العدو من انقساماتنا واختلافاتنا على مدى السنين، ولا يزال يستفيد من زلاتنا واخطائنا وانفعالاتنا، وعلينا اليوم ان نحرص الا ينال من اعلامنا.
- في مقابل الاعلام الموجه الاسرائيلي نرى في لبنان تفلتا اعلاميا، كيف يؤثر الاعلام اللبناني في هذه الحرب؟
هناك تنوع صارخ في الخطاب الاعلامي اللبناني، من هنا علينا العودة الى التاريخ والى ظروف تأسيس الاعلام في لبنان. اذ انه عند اندلاع الحرب الاهلية في لبنان، انشأ كل حزب مؤسسة اعلامية خاصة به، وبالتالي لم نعتمد على تحول النزاعات الى علاقة اخرى بل بقينا اطرافا متنازعة ولم يتم حل المشكلة يوما، لذلك نقول اليوم انه ليس هناك وحدة في الخطاب الاعلامي. ان التنوع في الاعلام لا يخدم هذه القضية، وبسبب هذا التفلت يتم التعامل معنا بفوقية. نتيجة غياب الوحدة في الخطاب والرؤية حول البلد انقسم هذا الاعلام وجعلنا اضعف، وهذا ما يستغله ادرعي ويظهر انقسامنا على بعض الامور. في هذه الايام نلتهم جميعنا الاخبار ملتصقين بالشاشات، تلك الشاشات التي بين ايدينا تخلط حابل الاخبار الصحيحة بنابل الاخبار الزائفة والمفبركة، وتلك الشاشات التي عدنا اليها بعد انقطاع طويل عنها كان احد اسبابه انكشاف الايديولوجيات التي تمولها وتوجهها بحسب اجنداتها السياسية.
- كيف تم التعامل اعلاميا مع حرب غزة؟
ان الاسرائيلي يشن حربا على لبنان وغزة باسم العالم لأنه بالنسبة اليه، حركة حماس وحزب الله مجموعتان ارهابيتان يجب التخلص منهما في المنطقة. ولقد ساهم الانقسام السياسي في لبنان كثيرا في القدرة على خرقنا. شركة meta هي المتحكم الاكبر بالمشهد الاعلامي في العالم كله، وهي التي تقرر مثلا حجب صورة طفل من غزة عند نشرها وحجب مواقع معينة. لا يمكن فصل السياسة عن الاعلام، ولا يمكن فصل الاعلام عن السياسة، الا ان العلاقة اختلفت اليوم. شركات التواصل الاجتماعي مناصرة لاسرائيل بخلاف المبادئ التي قامت على اساسها كحرية التعبير والحفاظ على الحريات العامة وغيرها، الا انه يبدو اليوم انها في اسفل المؤسسات الإعلامية، لانها برهنت ان القيم التي تأسست عليها هذه المؤسسات هي قيم فارغة. اتمنى نشوء وسائل بديلة عنها لأن الاحتكار الذي يمارسونه يؤثر في الذاكرة الجماعية حول قضايا عدة. الذكاء الاصطناعي اليوم يؤثر على نشر المعلومات وهندسة الرسائل الاعلامية التي تغير في الرأي العام من خلال دعايات ممنهجة.
- كيف يمكن ان يتعامل الاعلام اليوم مع الحرب؟
نحن في حاجة الى توعية الشباب الذين يمرون بظروف صعبة بطريقة لا يتم فيها سلخهم عن بيئتهم. يجب ان يكون هناك وعي تام، اليوم ليس وقت السبق الصحفي وان لا يكون الخطاب متشددا، فكيف يمكن اليوم اطلاق مواقف سياسية وهناك َمن دمرت منازلهم ويعيشون على الطرقات وفقدوا احباءهم. علينا احترام هؤلاء الناس. لقد وقع ما وقع، وعلى المصطلحات ان تكون موحدة. نحن نضع كل خبراتنا كأشخاص ومؤسسات في تصرف وزارة الاعلام من خلال دعمها، والاستفادة من الخبرات والقوانين التي وضعت في دول عدة. الاعلام اساسي في حماية السردية التاريخية، لذلك اهمية التقارب في الخطاب الاعلامي في هذه المحنة وتقديم اعلام هادف فيه، هو نوع من التوعية. علينا التخوف من اثارة الفتن لأن الأرض خصبة، وبالتالي نحن في مرحلة لا يجب ان يتم فيها “استعراض العضلات” من قبل الاعلاميين والمحطات. الاعلام يقدم السردية التي نريدها ويساهم في التجانس بين الناس، كما في الحفاظ على اختلاف الرأي بينهم. والاعلام هو الناقل الاساسي للحضارة ويحفظها لنا، وهو جزء اساسي من الحرب النفسية التي يمارسها العدو علينا، لكننا ويا للاسف نمارسها في هذه المرحلة على بعضنا البعض في لبنان. الحرب دائما وابدا عبارة عن ثلاث استراتيجيات متصلة، الاستراتيجيات العسكرية، الاستراتيجيات السياسية، والاستراتيجيات الاعلامية. وبغض النظر عن نتائج اي من هذه الاستراتيجيات، لا يمكننا ان نقبل بخسارة الحرب الاعلامية في ارثنا الاعلامي والادبي والفكري.