كتب د طلال حمود- رئيس جمعية عطاء بلا حدود، ومُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود:
عندما كتبتُ هذا المنشور الناقد المُتهكِّم على الأوضاع المُزرِية الّتي نعيشها في لبنان، وذلك بعنوان: “طبيب لبناني يهاجر من لبنان تحت وطأة فساد السّلطة والحكّام”، والّذي قلت فيه، إنّه وبعد أنْ اسْتَفحَلَت الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة في لبنان، وفي ظلّ عجز السّلطات القائمة هناك، عن إيجاد الحلول النّاجعة لأزمات لبنان المُتراكِمة، نتيجة عجز القائمين عليها وفسادهم ومحاصصاتهم، واستمرارهم في تفقير وتجويع وإذلال الشّعب اللّبناني الفقير أصلاً، والمُستسلِم لقدره نتيجة غياب الوعي السّياسي، والمَذهبيّة والتَّبعيّة والرّضوخ الكامل والأعمى للزعيم والبيك والرّئيس، فقد شوهد اليوم الدكتور ط.ح. وهو طبيب قلب لبنانيّ معروف في فرنسا، وهو يحاول العبور بدراجته الهوائية عبر بحر المانش إلى دولة بريطانيا العظمى، ومدينة
كاليه، لطلب اللّجوء السّياسي من سُلطات لندن، وذلك عن طريق الصّعود بطريقة “غير شرعيّة” على إحدى السّفن المُتوجِّهة إلى تلك الدّولة!
و بعد أنْ ألقى البوليس الفرنسيّ القبض عليه هناك، أدلى حمّود بتصريح لوسائل الإعلام أكّد فيه أنّه، وكما الكثير من اللّبنانيّين، كانوا يتوقون للعيش الكريم في وطن قويّ عزيز، غنيّ، وخالٍ من كلّ أشكال التَّبَعِيّة والاستزلام والإذلال، ولكن، تحكّم طغمة قويّة جدّاً من السّياسيين اللّبنانيين الفاسدين بمفاصل الدّولة منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة، حالَ دون بناء هكذا وطن، وأنّ معظم الشباب اللّبنانيّ بات يفضّل الهجرة إلى جميع أصقاع العالم لكي يحقّق حلمه في هذا الوطن، في بلاد الاغتراب، لأنّ كلّ ما يحصل في لبنان لا يُبشّر أبداً بالخير، ولأنّ الأمور تزداد تعقيداً وتأزُّماً في وطن الأرز، يومًا بعد يومٍ، وحكومةً بعد حكومة!
لا سيّما وأنّ الأمل الذي كان وُلد مع الحراك الّذي حدث في لبنان في ١٧ تشرين ٢٠١٩ قد تلاشى، فالفاسدون متجذّرون في البلد، وقادرون على شكّل قدرات أيّ حكومة نزيهة، ومنعها من إحراز أيّ تقدّم إنساني وأخلاقي في الوطن، فالأسماء الداعمة للفاسدين مازالت متشبّثة بمناصبها، والصّفقات بتبادل التّستير على الجهات الفاسدة قائمة على قدمٍ وساق، وإنّه لا بدّ من معجزة حقيقيّة ما لتحقيق التّغيير الحقيقيّ مع استبسال كل حيتان السّياسة والمال للحفاظ على المُكتَسَبات التي قدّمَتها وتقدِّمها لهم “الدّولة العميقة” هناك!
بعد كل هذا الكلام انهالَت التّعليقات على صفحتي الفيسبوكيّة، وتتالت الاتّصالات الهاتفيّة المستفسِرة عن الخبريّة، وهل هي صحيحة أم لا ؟ وأين أنا؟ وهل أوقَفتني الشّرطة فعلاً في فرنسا؟ وما إلى ذلك؟
وانهالت أيضاً عبارات الأسف لهجرتي وتركي لوطني العزيز، وللمرضى والفقراء والمحتاجين الّذين اعتادوا على بعض مبادراتي الإنسانيّة، ووقوفي دائماً ما استطعت إلى جانبهم في النّكبات المتتالية، بعد أن هالني أنْ أرى دولتي الكريمة قد تركتهم لقدرهم المحتوم، وهو الفقر والتّسكّع على أبواب الزّعماء والسياسيين وزوجاتهم، ومكاتب الأحزاب وغيرها، وبعد أن قمت بتأسيس جمعيّة إنسانيّة أسميتها “جمعية عطاء بلا حدود”، فكانت لها صولات وجولات متعدِّدة من العطاء والطّبابة المجانيّة في أكثر من سبعين قرية وبلدة على امتداد الوطن، من العريضة ومشتى حسن والقبيّات شمالاً، حتى عيتا الشّعب ومركبا والخيام جنوباً، مروراً بالقصر والهرمل وبعلبك ولبايّا في البقاع وفالوغا وبقعاتا ومزرعة الشوف وغيرها من قرى الجبل، وبعد أن قمت بتأسيس ملتقى حوار وعطاء بلا حدود الّذي سعيت من خلاله وبالتّعاون مع بعض الأصدقاء المخلصين الطّيّبين الوطنيّين لتكوين ( لوبي ) وطني جامع وعابر لكلّ أشكال الحدود والتّصنيفات الّتي يحاول البعض أن يضعها عثرة في طريق التّلاقي بين الّلبنانيين. وهنا أيضاً كانت لنا صولات وجولات ومؤتمرات وندوات طالت وحاولت أن تناقش كل أنواع الأزمات الّلبنانية وما أكثرها وكم هي متشعّبة! فأطلقنا منذ سنتين أو أكثر صفّارات الإنذار تجاه ممارسات السلطة، واعتمادها على سياسات واهنة تعتمد على الاستدانة والقروض، واستجداء العطايا من هنا وهناك! كما ناقشنا مواضيع التّدهور المالي والاقتصادي الحاصل، وجمعنا الخبراء والعلماء والمتخصّصين لثنيهم عن الاستمرار في سياستهم الاقتصادية والمالية، وفي اعتمادهم على الاقتصاد الرّيعي وعدم وجود رؤية اقتصاديّة واقعية تبني الوطن الّذي نريد.
وقد عقدنا الجلسات والنّدوات والحوارات، وتكلّمنا في الهدر والفساد والمحاصصة والاستزلام والإصلاحات الدستورية وقانون الانتخابات ودور المرأة في المجتمع، وتقبّل الآخر والعيش المشترك وغيرها وغيرها من المواضيع الّتي لا يتّسع المقام للاسترسال في شرحها.
لكننا صُدمنا دائماً بأنّا من يقابلنا هم قوم صمٌ بكمُ عميٌ، لا يريدون أن يسمعوا ولا أن يتّعظوا من سيرة الأوّلين ولا الآخرين ولا فرعون ولا قارون ولا هامان…
ومع انطلاق الحراك الشّعبي في السّابع عشر من تشرين، شمّرنا عن زنودنا ونزلنا إلى الّساحات، وتبنّينا كلّ المطالب الإصلاحيّة والاجتماعية والمعيشيّة المُحقّة التي رفعها الثّوار في مختلف الساحات. كما قمنا في تنسيقية الملتقى بزيارة معظم القيادات والمنسّقيات في الحراك لنكتشف أن هذه القيادات أساسًا هي قيادات متناحرة، وشعاراتها متعدّدة وأهدافها مختلفة، ولا أمل في توحيد هذه التّنسيقيات “الوطنية” منها، والّتي لها “أوتادها في السّفارات”، واكتشفنا لاحقاً أيضاً أن حكّامنا من جنسٍ آخر من المخلوقات، هي أقرب للشّياطين منها للبشر، وقد التفّوا على الحراك وجابهوه وأجهضوه وكبحوه، ولم يجرفهم هذا السّيل البشريّ العارم الّذي حدث ليلتقفمهم البحر وسمك القرش، فعادوا أقوى وأشرس وأعنف وكأنّ شيئاً لم يكن، يتناتشون كعكة الدّولة والخزينة، وينهبون بصفاقة كلّ المؤسّسات.
وهنا يارفاقي الغيارى سأصارحكم ومن القلب إلى القلب…
وأتوجّه إليكم بهذه الكلمات: فالمشكلة لم تكن أبداً ولا في أيّ يوم من الأيّام هروباً أو انسحاباً أو خوفًا أو عجزًا عن تحمّل المسؤوليّات!
المشكلة هي أنّنا حقيقةً وصلنا إلى حائط مسدود، ولا أُفُق للتّغيير في هذا البلد الصّغير في هذه الأيّام الّتي تجذّر فيها الفساد، وبات ينضح حتّى من صنبير الماء في البيوت، فكلّ الأخبار الواردة إلينا من وطننا، وبكلّ أسف، سلبيّة تبعث على التقيّؤ والاكتئاب!
مسؤولون لا مسؤولون لا زالوا يتناتشون قطعة الجبنة، ويقنصون الحصص والمراكز والمواقع لأزلامهم ومحاسيبهم وزبانيّتهم، وعبيدهم! ولا همّ لهم سوى المناصب والمكاسب، دون أيّ اكتراث لمصير هذا الوطن!
ومن ثمّ وزراء يُفاوضون من تحت الطّاولة لكي يحصلوا على أعلى المراتب والمناصِب، ليضمنوا مستقبلهم، ومستقبل عوائلهم، وآخرين ضمنوا مواقعهم وفرّغوا الموقع نفسه على أسمائهم ، لكي يعودوا إليه بعد انتهاء مهامهم الوزاريّة، حتى لا يبقوا من دون عمل بعد انقضاء فترة توزيرهم الّتي لن تطول كثيراً، بحسب الكثير من المعطيات!
أمّا الحكومة فهي مشلولة، مغلولة أياديها سوى عن الخطابات والإستعراضات والإنجازات الوهميّة! تتردّد في الحسم وفي أخذ القرارت، أو تأخذ القرار كخطوة أولى، أو تدرس البند الصّباحي، لتعود وتوزّع لنا بيانات النّقض والتّراجع في المساء أو في اليوم التالي، بعد أن تأتيها الضّغوط من أصحاب الهيمنة الفاسدين الّذين يتشدّقون على وسائل الإعلام بأنّهم ضدّ الفساد!
وها قد استرجعت إدارة شركات الخلويّ، ولم تفعّل فعليّاً، فوزير الاتّصالات الّذي عقدنا الأمل عليه مُحاط ببعض المستشارين الفاسدين، وغارق في تأمين مستقبله بدلًا من تأمين مستقبل الوطن والشعب الذي ائتمنه لتيسير أموره! والأدهى أنّ الأخبار الورادة من وراء البحار، تحمل لنا خبرًا اليوم مفاده أنّه تمّ تقسيم الشركتين بين الحركة والتيار!
فما تفسير هذا؟؟ هذا أمر لا تفسير له سوى أنّنا مقبلون على مزيد من الهدر والفساد والانحدار!
حكومتنا أجّلت سلعاتا! لا سلعاتا مشروع ضروري وهامّ جداً للتيّار ولا تيار كهربائي ٢٤/٢٤ ساعة سوى بتأسيس هذا المعمل الّذي أَجمع جميع الوزراء والخبراء والأولياء الصّالحين أنّه غير ذي جدوى حالياً!!
ولكن فخامته استعمل صلاحياته الدّستورية وأعاد سلعاتا إلى التّيار، ولحست الحكومة قرارها الذي طار، وتركتنا في حيرة من أمرنا بسبب هذا التّراجع غير المبرّر، والهادف لدعم الصّهر الّذي يعيش لبنان الأزمة تلو الأزمة على مراضاته وتطييب خاطره، وتقوية نفوذه!
وهذا قانون قيصر، وقوانين محاسبة سوريا ومعاقبة شعبها وحكومتها، تُقسّمنا يميناً ويسارًا!
أمّا التّعيينات القضائية، ففي أدراج وزيرة العدل، أو بين كواليس مجلس القضاء الأعلى والقصر الجمهوريّ، لم نعد ندري ما الإشاعات وأسرار المُناقلات والأخبار!!
وحراك بلادي يا ولدي محتار محتار محتار!!! تسمع هنا عن قطع طرقات وهناك عن وقفات إحتجاجية متفرّقة لا مدروسة ولا مُبرمَجة ولا موجِعة!
فما الحلّ لدى ناشطٍ مثلي عاجزٍ عن إحداث أقلّ تغيير ممكن في بحر الفساد هذا؟
ولذا أستميحكم عذرًا، كلّ من عقدوا آمالهم على قوّتي! أنّا أضعف من أن أخرج بكم إلى شواطئ العدالة!
لقد تركتُ أهل السّلطة يكسبون في ميزان القوى، حتّى اليوم، لأنّ ثوّارنا لم يوحّدوا القيادة والهتافات ولا الشّعار!
فلا تلومونني اليوم، بعد وصول كلّ هذه الأخبار البائسة إن قلت لكم : لقد قتلوا حلمي في وطنٍ كريمٍ حرٍ قويٍ متقدّمٍ، قاهر لأعدائه!
وإنني إزاء كلّ هذا، لا أخفيكم، انني لعبت دور اليائس، التائه الكئيب، او طالب الهجرة قصراً عن وطنه، لا عن تخاذلٍ او تقاعس أو خوفٍ أو جبنٍ، أو هروب أو فرار..
بل بسبب سرطان الفساد الّذي نخر عظم بلادي وفتّته، ودفع أمثالي وسيدفع طبعاً غيري لعبور البراري والأنهار والبحار، طلباً للعيش الكريم وللعزّة والإباء، ورفضاً للخضوع لقوى الذّل والعار!! فالهدف كان، بعد كلّ ما عشتُه من معاناة مع هذا المستوى غير المسبوق من الفساد، وغياب أي بصيص أمل في لبنان، هو أن أقول لهم بأعلى صوتي فإذا كنتم ولا بّد لا تريدون ان ترحلوا او تتوقفوا عن ضلالكم: خذوا المناصب والمكاسب..لكن أرجوكم اتركوا لي الوطن ولا تحرقوه بالكامل بعدما استبحتموه! وطبعاً بالإذن من الفنان التونسي القدير لطفي بوشناق الذي غنى من وحي تلك الكلمات، غداة ثورة تونس!