كتب خضر حسان في “المدن“:
ترفض نقابة الصرّافين تصوير أعضائها بأنهم يساهمون في نمو السوق السوداء، ورفع أسعار الدولار. تحيل تلك المهمّة إلى الصرّافين غير الشرعيين، وتدعو القوى الأمنية لتوقيفهم. والأخيرة، تقوم ببضع جولات خجولة، وتوقف الحلقة الأضعف من السلسلة، من دون أن تخدش الكبار.
حتى أن توقيف نقيب الصرّافين محمود مراد، لم يشكّل رادعاً لأهل القطاع، ولا إقفال محال أمين سرّ النقابة محمود حلاوي. فكل تلك الاجراءات جرى التراجع عنها، وبات الصرّافون شركاء أساسيون في تحديد سعر الدولار وتعزيز انهيار الليرة.
أحد أبرز الأدوار التي يقوم بها الصرّافون، هي تغذية السوق السوداء بالدولار. وإن كان وصف السوق بالسوداء كدلالةٍ على عدم قانونيتها أو غموض هوية أصحابها وعدم انكشاف المتحكّمين بها، إلاّ أن السوق التي تتحكّم بأسعار الدولار معروفة وواضحة لمن يريد أن يرى جيداً. فيبقى وصف السوداء، تعبيراً مجازياً فقط.
بازار علني
يقرّر ناجي التوجّه إلى السوق التجاري في مدينة صور، لتبديل مبلغ ألف دولار أميركي. فالعرض اليوم مغرٍ جداً. أكثر من 5 آلاف ليرة مقابل كل دولار. أي أن الألف دولار التي يملكها، ستساوي أكثر من 5 ملايين ليرة. أما الحصيلة النهائية للمبلغ، فهي رهن بالمفاوضات التي ستجري بينه وبين الصرّاف.
نحو خمسة محال للصيرفة موجودة على تخوم السوق، أحدها لصرّاف ينتمي إلى الفئة “أ”، التي تتغنّى نقابة الصرّافين باحتكام اعضائها إلى قرارات مصرف لبنان، والتي تنفّذها النقابة بغية حماية الليرة ومنع المضاربة.
قبل الوصول إلى محال الصيرفة، اصطاد أحد الشبّان من على درّاجاته النارية، الألف دولار التي يخبّئها ناجي في جيبه. كيف عرف بأن ناجي يملك الدولارات ويريد تصريفها؟ هو حدسٌ طوّره بفعل الخبرة.
يسأل الشاب عمّا إذا كان ناجي يريد تبديل الدولارات. يهزّ ناجي رأسه موافقاً، ويسأل عن السعر. يعرض الشاب 5050 ليرة. وقبل أن يدير ناجي ظهره لمواصلة المسير نحو أقرب صرّاف مرخّص، يرفع الشاب عرضه إلى 5100 ليرة ثم إلى 5150 ليرة. لم تتم الصفقة.
يجول ناجي على الصرّافين. يقدّمون جميعهم عروضاً متقاربة، يختار العرض الأفضل، ويصرف دولاراته بـ5200 ليرة.
قُبَيلَ الخروج من حرم السوق، يلمح ناجي صديقاً له يفاوض أحد الشبّان المنتشرين على مدخل السوق. شبّان يدقّقون بوجوه المارّة بطريقة تشبه أسلوب المخبرين. ليس المحترفين منهم، وإنما على شبه بأولئك الذين دأب الاحتلال السوري على زرعهم في زوايا شوارع بيروت، لإرهاب أصحاب الرأي.
وللأمانة، هؤلاء الشبّان لم يزرعهم جهاز أمني لمراقبة الناس، وانما تطوّعوا لجذب الزبائن لمحال الصيرفة، على أن ينالوا نسبة من عملية البيع والشراء، وبالتوازي، يجنّبون الصرّافين الوقوع في مأزق قانوني بتهمة المضاربة على الليرة أو تغذية السوق السوداء.
تمّ الاتفاق بين الصديق والشاب. ستُصرَف الدولارات مقابل 5200 ليرة أيضاً. لكن أين ستتم عملية التسلّم والتسليم؟ وأين هي الليرات؟
اللعبة مكشوفة
يومىء الشاب برأسه لفتى لا يتجاوز عمره 15 عاماً، يركض الفتى باتجاه أحد محال الصرافة، ويعود بصحبة شاب آخر يحمل بيده حزمة من مئات آلاف الليرات. يركن الجميع إلى زاوية جدار، وبحركة سريعة، يعدّ حامل الليرات مبلغ 10 مليون ليرة. يتأكّد منها الصديق بسرعة، ويهزّ رأسه مؤكداً صحّة الرقم. يأخذ 400 ألف ليرة إضافية، ويدير ظهره مغادراً، ويتفرّق باقي أفراد العملية.
كم هو قوي هذا الجدار، يحمي بزاوية صغيرة منه، عملية تهدّد الأمن الاقتصادي والاجتماعي، ويُبعِد عيون القوى الأمنية عن العمليات غير الشرعية. فهل هو فعلاً كذلك؟
جولات متكرّرة في المكان عينه، تؤكّد أن كل شيء مكشوف. وما الركون إلى الحائط سوى حركة “لزوم الشغل”، هي تمثيل يوحي بأن القوى الأمنية تقوم بواجبها، وأن محال الصرافة لا تقوم بمثل هذه العمليات. فالشبّان أنفسهم يبقون في المكان عينه، والأسئلة عينها تُطرَح على المارّة. وهؤلاء يديرون شبكة من الفتيان يجولون بدرّاجاتهم النارية ضمن مساحة تبعد قليلاً عن مدخل السوق حيث يتمركز مشغّليهم. وإن كانت العين المجرّدة تلاحظ تلك الحركة وتفاصيلها من دون جهد وجمعٍ للمعلومات، أفلا تستطيع القوى الأمنية الملاحظة؟